سؤال الاستغراب في النظام المعرفي الإسلامي

تاريخ الإصدار: 
10 يناير 2016

  

من مقدمة المؤلف:

شكَّل الآخر كل الآخر في المتن المعرفي الإسلامي، مكانةً لا تقل أهمية عن تلك التي يحتلها ويشغلها الفرد داخل المجتمع الإسلامي والجغرافيا الإسلامية، بمكوناتها الدينية والثقافية واللغوية المختلفة، ومرجع هذا الاهتمام إلى كون الرؤية الإسلامية الكلية الكونية التي تُؤطِّر حركة الحياة تنطلق من نظام معرفي قاعدته الرئيسية تتوكأ على المعاني المتدلية من آيات التعارف والمعروف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات : 13، فمن الطبيعي والحالة هذه أن تحتل دراسة الآخر وفهمه وقراءته ومعرفته موقعًا مناسبًا ضمن هذه الرؤية.

وإذا كان الآخر عند الغرب هو العذاب والجحيم، فإن الآخر عندنا هو ساحة تعارف واعتراف، تعارف على المعروف واعتراف بالمشترك الإنساني في ساحته وفي مسيرة الكدح الإنساني إلى رب العزة جلَّ جلَّاله، ومن هنا شكَّلت المقاربتين "الاستشراقية" و"الاستغرابية" في الحضارتين فرقًا فارقًا بين رؤيتين ومنظورين لا تزال آثارهما تصنعان الواقع. إنَّ الغرب منظورًا إليه من زاوية الاستغراب ليس إلَّا الإنسان في حاجة إلى يد العون لانتشاله من خطيئته وخطئه وأوهام المادية الغربية التي فككته وسلبته إنسانيته،.. بعكس الشرق منظورًا إليه من زاوية الاستشراق ليس إلَّا العدو أو العبيد، ولذا بَقِيَ الآخر الشرقي في الوعي الجَمْعي والمتخيل الغربي مادة دسمة لهذه التمثيلات، من خلال قناة الاستشراق التي تخصصت في دراسة الشرق الإسلامي دراسة لم يسبق إليها في تاريخ الأفكار والحضارات على هذا القدر من الكم والكيف والكثافة والدقة.

وفي الطرف المقابل، وبالرغم من أنَّ موضوع دراسة الغرب في الرؤية الإسلامية لم يكن نافلة من نوافل البحث العلمي، ولا مادة للتفكه والمثاقفة العابرة، إلا أن الأمة تفتقد إلى هذا اللون من المعرفة العلمية على هيئة علم يختص برصد ومتابعة وتحليل الظاهرة الغربية، يتيح لها فهم مجريات الأمور وطبيعتها في العالم الغربي، بالرغم من قوة وضغط الاحتياجات الواقعية الدافعة إلى مثل هذا المنحى والتوجه، فالغرب بسط ذراعيه بوصيد العالم الإسلامي قرونًا من الزمن يتحكم في قوته ووقته وقوته ولمَّا يزال! وهذا لوحده كان كافيًا لأنْ تتداعى الأمة لتأسيس جهاز فكري لتقوية مناعتها وأمنها الاستيراتيجي من خلال منظومة رصد مؤسساتية علمية تنطلق من "علم الاستغراب" تتابع كل حركة وسكنة لهذا الكيان في عالمه، وتمنحنا القدرة الكافية للاستفادة من منجزاته.

لم يكن الاستشراق لمَّا درس الإسلام يرى النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يري يتيم أبي طالب، كما لم يكن يرى في العرب حين درس الحضارة الإسلامية أنهم أرباب الحضارة، ولكن كان يرى فيهم البداوة والقساوة، فكيف ليتيم أن يكون نبيًا، وكيف للأعراب أن يصنعوا الحضارة، وكيف لأمة خرجت من واد غير ذي زرع أن يعجب الغرب نباته، هكذا كان اللاوعي الغربي يخاطب الوعي الغربي في كل تاريخه القديم والمعاصر، وهي نتائج ومخرجات طبيعية من عقل يستند إلى نظام معرفي مدخلاته تصطرع بمفردات القوة والهيمنة والاستعداء والاستعمار فمن الطبيعي أن نرى مصاديق هذه المدخلات تصطخب في واقعنا العربي والإسلامي.

لقد استشرق الغرب واستغربنا، واستغربت معنا أمم كثيرة من غير العرب والمسلمين، ولكن شتَّان بين الرحلتين المعرفيتين والاستغرابين. استشراق الغرب أثمر دراسة لأطراف وبُنى ودالة هذه الحضارة وفلسفتها، واستغراب الآخرين مثل اليابان والصين للغرب .. دفعهم لأن ينافسوه في عقر داره بعد حين من الدراسة والمتابعة حتى أصبحوا معه كفرسي رهان في العلم والتكنولوجيا، أمَّا استغراب المسلمين فلا وبعد مُضي قرون من الزمن على وجود فكرته وأصوله ومنابعه في تراثنا يراوح مكانه مكبل بعجزه عن صياغة وإبداع نظريات تمكنه من رؤية الآخر بوضوح.

ومن هنا غدا التوجه إلى هذا الميدان ومحاولة صناعة تيار يمثل الكتلة الحرجة المُنَّظِّرة لهذا العلم مع المرافعة عن آلياته ومقاصده، ضرورة وفريضة، ضرورة لأن العالم اليوم لا يمكن التفاهم معه إلا بفهمه .. وفي هذا السياق تأتي هذه الدراسة كإضافة من الإضافات إلى هذا المشروع الحضاري الكبير في الأمة.

 

البحث الفائز بجائزة "عبدالله عبدالغني العالمية للإبداع الفكري" النسخة السادسة 2015م

العنوان: سؤال الاستغراب في النظام المعرفي الإسلامي

المؤلف: عادل بن بوزيد العيساوي

الناشر: مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات

سنة النشر: 2016

الطبعة: الأولى

جميع الحقوق محفوظة